الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهي نادرة تصح أو لا تصح. ولكنها تذكرنا بجلال هذا القسم من الله سبحانه. القسم بذاته. بصفته: رب السماء والأرض. مما يزيد الحقيقة المقسم عليها جلالًا. وهي حقيقة بلا قسم ولا يمين.ذلك كان القطاع الأول في السورة. أما القطاع الثاني فيشمل تلك الإشارات إلى قصص إبراهيم، ولوط، وموسى، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وقوم نوح.. وهو مرتبط بما قبله، ومرتبط كذلك بما بعده في سياق السورة.{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلامًا قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}..إنها آية أو آيات في تاريخ الرسالات. كتلك الآيات التي أشار إليها في الأرض وفي الأنفس. وإنه وعد أو وعود تتحقق من تلك الوعود التي أشار إلى تحققها في القطاع السابق.ويبدأ الحديث عن إبراهيم بالسؤال: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين}.. تنويهًا بهذا الحديث، وتهيئة للأذهان. مع وصف ضيف إبراهيم بالمكرمين؛ إما لأنهم كذلك عند الله؛ وإما إشارة إلى إكرام إبراهيم لهم كما ورد في القصة.ويبدو كرم إبراهيم وسخاؤه وإرخاصه للمال واضحًا. فما يكاد ضيفه يدخلون عليه ويقولون: سلامًا. ويرد عليهم السلام، وهو ينكرهم ولا يعرفهم. ما يكاد يتلقى السلام ويرده حتى يذهب إلى أهله- أي زوجه- مسارعًا ليهيئ لهم الطعام. ويجيء به طعامًا وفيرًا يكفي عشرات: {فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين}.. وهم كانوا ثلاثة فيما يقال.. تكفيهم كتف من هذا العجل السمين!{فقربه إليهم قال ألا تأكلون}.. وجاء هذا السؤال بعد أن رأى أيديهم لا تصل إليه، ولا يبدو عليهم أنهم سيأكلون طعامه.{فأوجس منهم خيفة}.. إما لأن الطارئ الذي لا يأكل طعام مضيفه ينبئ عن نية شر وخيانة. وإما لأنه لمح أن فيهم شيئًا غريبًا! عندئذ كشفوا له عن حقيقتهم أو طمأنوه وبشروه: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم}.. وهي البشارة بإسحاق من زوجه العقيم.{فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم}.. وقد سمعت البشرى، فبغتت وفوجئت، فندت منها صيحة الدهش، وعلى عادة النساء ضربت خديها بكفيها.. وقالت عجوز عقيم. تنبئ عن دهشتها لهذه البشرى وهي عجوز. وقد كانت من الأصل عقيمًا. وقد أخذتها المفاجأة العنيفة التي لم تكن تتوقعها أبدًا، فنسيت أن البشرى تحملها الملائكة! عندئذ ردها المرسلون إلى الحقيقة الأولى. حقيقة القدرة التي لا يقيدها شيء، والتي تدبر كل أمر بحكمة وعلم:{قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}..وكل شيء يكون إذا قيل له: كن. وقد قال الله. فماذا بعد قوله؟ إن الألفة والعادة تقيدان الإدراك البشري، وتحدان من تصوراته. فيدهش إذ يرى ما يخالف المألوف له؛ ويعجب كيف يكون؛ وقد يتبجح فينكر أن يكون! والمشيئة المطلقة ماضية في طريقها لا تتقيد بمألوف البشر الصغير المحدود؛ تبدع ما تشاء، بغير ما حدود أو قيود!عند ذلك راح إبراهيم يسأل وقد عرف حقيقة ضيفه عن شأنهم الذي أرسلوا فيه: {قال فما خطبكم أيها المرسلون}..{قالوا انا أرسلنا إلى قوم مجرمين}.. هم قوم لوط. كما ورد في سور أخرى.{لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين}..وهذه الحجارة الطينية المعلمة أو المعدة المجهزة عند الله للمسرفين المتجاوزين الحق- وقوم لوط كانوا مسرفين في تجاوزهم للفطرة والحق والدين- لا يمتنع أن تكون حجارة بركان ثائر يقذف بالحمم الطيني من جوف الأرض. فهي {عند ربك} بهذا الاعتبار مسلطة- وفق إرادته ونواميسه- على من يريد من المسرفين. مقدرة بزمانها ومكانها وفق علمه وتدبيره القديم. وأن يتولى إرسالها- في إطار إرادته ونواميسه- ملائكته. وهل ندري نحن حقيقة ملائكته؟ وهل ندري حقيقة علاقتهم بهذا الكون ومن فيه وما فيه؟ وهل ندري حقيقة القوى الكونية التي نسميها من عندنا أسماء بحسب ظواهرها التي تتكشف لنا بين الحين والحين؟ وما لنا نعترض على خبر الله لنا أنه سلط بعض هذه القوى في وقت ما، لترسل بعض هذه القوى في صورة ما، على قوم ما، في أرض ما، ما لنا نعترض على خبر الله لنا، ونحن ما نزال كل ذخيرتنا من المعرفة فروض ونظريات وتأويلات لظواهر تلك القوى. أما حقيقتها فهي عنا بعيدة؟! فلتكن حجارة بركانية أو لتكن حجارة أخرى فهذه كتلك في يد الله، ومن صنعه، وسرها غيب عنده يكشفه حين يشاء!{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين}.. لإنجائهم وحمايتهم..{فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}: هم بيت النبي لوط. كما ورد في مواضع أخرى. فكانوا هم الناجين إلا امرأته كانت من المهلكين.{وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.. فالذين يخافون هم الذين يرون الآية ويدركونها وينتفعون بها. أما الآخرون فمطموسون لا يرون آيات الله. لا في الأرض ولا في أنفسهم ولا في أحداث التاريخ!وآية أخرى في قصة موسى، يشير إليها إشارة سريعة في معرض الآيات في تاريخ المرسلين:{وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}..والسلطان المبين الذي أرسل الله به موسى إلى فرعون، هو الحجة القوية، والبرهان القاطع، وهو الهيبة الجليلة التي خلعها عليه. وهو معهما يسمع ويرى. ولكن فرعون تولى بركنه، وازور بجانبه عن الحق الواضح والبرهان القاطع؛ وقال عن موسى النبي الذي كشف له عن آيات الله الخوارق: {ساحر أو مجنون}.. مما يقطع بأن الآيات والخوارق لا تهدي قلبًا لم يتأهب للهدى؛ ولا تقطع لسانًا يصر على الباطل ويفتري.ولا يطيل السياق هنا في عرض تفصيلات القصة؛ فيمضي إلى نهايتها التي تتجلى فيها الآية الباقية المذكورة في التاريخ: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}.. أي مستحقًا للوم على ما كان منه من طغيان ومن تكذيب.وواضح في التعبير فعل الله المباشر في أخذه هو وقومه، وفي نبذهم في اليم. وهو الإيقاع المقصود لإبراز آية الله في موسى. في معرض آياته في الأرض والأنفس وتاريخ الرسالات والمرسلين.وآية أخرى في عاد:{وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}..وسميت الريح التي أرسلت على عاد عقيمًا لأنها لم تكن تحمل ماء ولا حياة كما توقعوا. إنما تحمل الموت والدمار. وتترك كل شيء تأتي عليه كالميت الذي رمّ وتحول إلى فتات!والريح قوة من قوى هذا الكون. وجند من جند الله. وما يعلم جنود ربك إلا هو. يرسلها- في إطار مشيئته وناموسه- في صورة ما من صورها، وفي الوقت المقدر، على من يريد، بالهلاك والدمار، أو بالحيا والحياة. ولا مكان في مثل هذه المواضع للاعتراض السطحي الساذج، بالقول بأن الريح تجري وفق نظام كوني؛ وتهب هنا أو هناك تبعًا لعوامل طبيعية. فالذي يجريها وفق ذلك النظام وتبع هذه العوامل هو الذي يسلطها على من يشاء عندما يشاء وفق تقديره وتدبيره. وهو قادر على أن يسلطها كما يريد في إطار النظام الذي قدره والعوامل التي جعلها. ولا مخالفة ولا شبهة ولا اعتراض!وآية ثالثة في ثمود:{وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين}..والإشارة في قوله: {إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين}.. قد تعني إمهالهم ثلاثة أيام بعد قتل الناقة. وهو ما ورد في الآية: {فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام}.. وقد تعني ما قدر لهم من المتاع منذ الرسالة إلى أن قتلوا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، فحق عليهم الهلاك.وما يقال في الحجارة التي أرسلت على قوم لوط، وفي الريح التي أرسلت على عاد، يقال في الصاعقة التي أرسلت على ثمود. فكلها قوى كونية مدبرة بأمر الله، مسخرة بمشيئته وبنواميسه. يسلطها على من يشاء في إطار تلك النواميس. فتؤدي دورها الذي يكلفها الله. كأي جند من جند الله.وآية رابعة في قوم نوح:{وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قومًا فاسقين}..وهي إشارة سريعة تلمس القصة لمسة واحدة بدون إيضاح. كأنما ليقال: واذكر قوم نوح. وقد وردت قومَ منصوبة وبدون لفظ في بتقدير كلمة اذكر قبلها. وتلتها {والسماء بنيناها} معطوفة عليها.. وهذه آية كونية، وتلك آية تاريخية.يربطهما السياق معًا، ويربط بهما هذا القطاع بالقطاع الثالث في السورة..{والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين}..إنها عودة إلى المعرض الكوني الذي افتتحت به السورة، في صورة من صوره الكثيرة التي يجلوها القرآن للقلوب. واستطراد في الإشارة إلى آيات الله هنا وهناك، يصل آية نوح بآية السماء وآية الأرض وآية الخلائق. ثم يخلص به إلى ذلك الهتاف بالبشر ليفروا إلى الله موحدين متجردين.{والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون}..والأيد: القوة. والقوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك المتناسق. بأي مدلول من مدلولات كلمة السماء. سواء كانت تعني مدارات النجوم والكواكب. أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحوي مئات الملايين من النجوم. أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثر فيه النجوم والكواكب.. أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء.والسعة كذلك ظاهرة فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة والتي تعد بالملايين، لا تعدو أن تكون ذرات متناثرة في هذا الفضاء الرحيب.ولعل في الإشارة إلى السعة إيحاء آخر إلى مخازن الأرزاق التي قال من قبل: إنها في السماء ولو أن السماء هناك مجرد رمز إلى ما عند الله. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالًا معينة، يبدو أنها مقصودة في التعبير، لخطاب المشاعر البشرية خطابًا موحيًا.ومثلها الإشارة الأخرى إلى الأرض الممهودة المفروشة:{والأرض فرشناها فنعم الماهدون}..فقد أعد الله هذه الأرض لتكون مهدًا للحياة كما أسلفنا. والفرش يوحي باليسر والراحة والعناية. وقد هيئت الأرض لتكون محضنًا ميسرًا ممهدًا، كل شيء فيه مقدر بدقة لتيسير الحياة وكفالتها: {فنعم الماهدون}..{ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}..وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخلق في هذه الأرض- وربما في هذا الكون. إذ أن التعبير لا يخصص الأرض- قاعدة الزوجية في الخلق. وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة {شيء} تشمل غير الأحياء أيضًا. والتعبير يقرر أن الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية.وحين نتذكر أن هذا النص عرفه البشر منذ أربعة عشر قرنًا. وأن فكرة عموم الزوجية- حتى في الأحياء- لم تكن معروفة حينذاك. فضلًا على عموم الزوجية في كل شيء.. حين نتذكر هذا نجدنا أمام أمر عجيب عظيم.. وهو يطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكرة كل التبكير!كما أن هذا النص يجعلنا نرجح أن البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة. وهي تكاد تقرر أن بناء الكون كله يرجع إلى الذرة. وأن الذرة مؤلفة من زوج من الكهرباء: موجب وسالب! فقد تكون تلك البحوث إذن على طريق الحقيقة في ضوء هذا النص العجيب.وفي ظل هذه اللمسات القصيرة العبارة الهائلة المدى: في أجواز السماء، وفي آماد الأرض، وفي أعماق الخلائق. يهتف بالبشر ليفروا إلى خالق السماء والأرض والخلائق، متجردين من كل ما يثقل أرواحهم ويقيدها؛ موحدين الله الذي خلق هذا الكون وحده بلا شريك.{ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلهًا آخر إني لكم منه نذير مبين}..والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقًا. وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال والأوهاق، التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال. وبخاصة أوهاق الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثم يجيء الهتاف قويًا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى الله وحده منزهًا عن كل شريك. وتذكير الناس بانقطاع الحجة وسقوط العذر: {إني لكم منه نذير مبين}.. وتكرار هذا التنبيه في آيتين متجاورتين، زيادة في التنبيه والتحذير!وكأنما كانت هذه الإشارة إلى آية السماء وآية الأرض وآية الخليقة استطرادًا مع آيات الرسالات والرسل. فلما انتهت جاء التعقيب على قصص الرسل التي سلفت في السياق:{كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فمآ أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}..فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين؛ وهو استقبال واحد للحق والرسل يستقبلهم به المنحرفون: {كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون}.. كما يقول هؤلاء المشركون! كأنما تواصوا بهذا الاستقبال على مدار القرون! وما تواصوا بشيء إنما هي طبيعة الطغيان وتجاوز الحق والقصد تجمع بين الغابرين واللاحقين!والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذا الموقف المكرور، الذي كأنما تواصى به الطاغون على مدار القرون، ألا يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم تكذيب المشركين. فهو غير ملوم على ضلالهم، ولا مقصر في هدايتهم: {فتول عنهم فمآ أنت بملوم}.. إنما هو مذكر، فعليه أن يذكر، وأن يمضي في التذكير، مهما أعرض المعرضون وكذب المكذبون: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.. ولا تنفع غيرهم من الجاحدين. والتذكير هو وظيفة الرسل. والهدى والضلال خارجان عن هذه الوظيفة، والأمر فيهما إلى الله وحده. الذي خلق الناس لأمر يريده.هنا يجيء الإيقاع الأخير في السورة. ويتضح معنى الفرار إلى الله، والتخلص من الأوهاق والأثقال، لأداء الوظيفة التي خلق الله العباد لها، ومنحهم وجودهم ليؤدوها:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}..
|